مقال | شروق مستور
في مذكراته “خارج المكان”، يكشف إدوارد سعيد عن صراع داخلي مع هويته نتيجة التنقل بين أماكن وثقافات مختلفة. هذا الصراع هو انعكاس لما يعانيه اليوم ملايين المهجرين والنازحين الذين يواجهون أزمات هوية عميقة. بالنسبة للفلسطينيين، الأرض ليست مجرد مكان، بل رمز للهوية والمقاومة، ومنذ نكبة 1948، يتعرضون لتهجير ممنهج يفاقم أزمة الانتماء، خصوصًا لمن يعيشون في الشتات.
التهجير القسري لا يقتصر على فقدان المكان، بل يخلق جراحًا عميقة تتعلق بالهوية. الأرض تحمل الذاكرة الجماعية للشعوب، وفقدانها يعني اقتلاع جذور الهوية والانتماء.
ورغم أن فلسطين تُعتبر النموذج الأبرز للنزوح والتهجير، إلا أن الشرق الأوسط بأسره يعاني من هذه الظاهرة بسبب الحروب والنزاعات. في لبنان، سوريا، العراق، اليمن، وليبيا، ملايين الأفراد اضطروا للنزوح وفقدوا شعورهم بالاستقرار والانتماء.
كيف يمكن للأرض أن تشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية الفرد والمجتمع؟
الأرض تسبق الوجود البشري، وبالتالي تشكل البعد الأساسي الأول الذي يؤسس لهوية المجتمعات وانتمائها. فرغم الترابط بين المجتمعات والتبادل الثقافي الذي يُعدّ جزءًا من الطبيعة البشرية، يبقى الانتماء إلى الأرض هو الركيزة الأساسية للهوية، فالأرض تعكس التراث والعادات والتقاليد التي تشكل جزءًا من هوية المجتمع وتطوره، وهي الذاكرة الجماعية والتاريخ المشترك.
ماذا يحدث عندما تُجبر المجتمعات على النزوح أو تُفقد أراضيها؟
في المجتمعات التي تعرضت للنزوح أو فقدت أراضيها، يصبح فقدان الأرض بمثابة فقدان جزء من الهوية والانتماء، مما يؤدي إلى أزمات وشعور بالاقتلاع من الجذور.
يتعلق الشخص بالبقاء في وطنه انسجامًا مع عمق الانتماء الذي يشعر به تجاه أرضه، وعندما يُجبر على الرحيل بسبب الحروب والعنف، يواجه أزمة وجودية عميقة: أين سأمارس هذا الانتماء؟ هل تظل هويتي متجذرة في الأرض التي نشأت فيها، أم أن هذا الانتماء يصبح مشتتًا بفعل النزوح والابتعاد القسري؟
جراح الهوية والانتماء في الذاكرة الفلسطينية واللبنانية
التهجير القسري الذي يعاني منه الفلسطينيون اليوم لا يقتصر فقط على فقدان المكان، بل يحمل معه جراحًا أعمق يتعلق بالهوية والانتماء. الأرض بالنسبة للفلسطينيين ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي جزء من كيانهم ورمز لنضالهم ومقاومتهم. منذ نكبة 1948، تعرض الفلسطينيون لعمليات تهجير ممنهجة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا عبر سياسات الاستيطان والمصادرة. هذه العمليات تؤدي إلى تفاقم أزمة الهوية لدى الفلسطينيين، خصوصًا أولئك الذين يعيشون في الشتات، حيث يعيشون في حالة دائمة من التشتت بين ماضيهم المرتبط بالأرض وحاضرهم الذي يفتقر إلى الجذور.
في لبنان، الأزمة متجددة، فخبرة حرب 2006 تركت بصمة عميقة في الشعب اللبناني. العدوان الحالي أعاد إحياء هذه الجراح القديمة، مما جعل النزوح أحد أبرز المشاكل المجتمعية، سواء كان النزوح داخليًا نتيجة الصراعات والتهديدات الإسرائيلية، أو خارجيًا بسبب تدفق اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب.
ويأتي النزوح في ظل العدوان الإسرائيلي بنوعين مختلفين: الأول هو نزوح اللبنانيين من منازلهم والثاني هو نزوح السوريين الذين اتخذوا من لبنان ملجأ لهم هربًا من الحرب. وهذا يطرح أزمة مزدوجة، حيث يواجه البلد تحديات كبيرة على مستوى استيعاب اللاجئين وإعادة بناء المجتمعات المتضررة، ويواجه الأفراد تحديات على مستوى الاستقرار والأمن.
نحن أمام تحدٍ كبير يتمثل في إدراك خطورة ظاهرة النزوح القسري وآثارها السلبية على الهوية، الاستقرار الاجتماعي، والنسيج الثقافي للدول المتأثرة. فهل يمكن للمجتمع الدولي والدول الإقليمية أن تتعاون بشكل فعّال لمعالجة ظاهرة النزوح القسري والتوجه نحو تحقيق استقرار مستدام في ظل التحديات السياسية والإنسانية المتزايدة في الشرق الأوسط؟
شروق مستور
باحثة مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية
حائزة على ماجستير في العلوم الأمنية والاستراتيجية
لها عدة مقالات ودراسات منشورة في مجالات الأمن والسياسات الدولية