
مقال | أحمد يمّين
يلعب السُّلوك الاجتماعيُّ دورًا حيويًّا في تشكيل هويَّة الفرد وتوجُّهاته المستقبليَّة. إنَّ المدرسة – باعتبارها البيت الثّاني للطُّلّاب – تُعتبر بيئةً مثاليَّةً لتعزيز هذا السلوك وغرس القيم الإيجابيَّة الَّتي تساعد على بناء مجتمعٍ متماسكٍ ومترابطٍ. وبما أنَّها المجتمع الأوليُّ الَّذي يقوم على بناء الشَّخصيَّة الفرديَّة وتكوين جزءٍ من الثَّقافة الاجتماعيَّة، فهي الفاعل الأوَّل بعد الأهل في تنشئة الفرد والجماعة. لذلك، فإنَّ الحال يقتضي ربط العلم بالعمل بتبنّي مفهوم “ثقافة البيت الثاني”. فما المقصود بهذه الثَّقافة؟ وما الآليَّة الفاعلة في تعزيز السُّلوك الاجتماعيِّ؟ وإلى أيِّ مدًى يمكن بناء بيتٍ ثانٍ للطّالب داخل المدرسة؟
بتشريح المفهوم يمكن رصد المعنى: فالثَّقافة هنا هي كلُّ ما يقوم عليه العلم والمنطق والسُّلوك وما يُقوِّم الفعل وردَّة الفعل في معرض الذّات والآخر، أمّا البيت فهو المكان الَّذي يستقرُّ فيه النَّفس والجسد ويلجأ إليه الإنسان في سرّائه وضرّائه ليشارك أفراده همومه وهمومهم. والتَّثنية هنا لربط الثّاني بالأوَّل دون جعله ثانويًّا، بمعنى أنَّ البيتين يتعاونان في سبيل تحصين الفرد من أيِّ أزمةٍ فكريَّةٍ وثقافيَّةٍ واجتماعيَّةٍ قد تجتاح المجتمع الأكبر.
انطلاقًا ممّا سبق، نهتدي إلى أنَّ ثقافة البيت الثّاني تعني خلق بيئةٍ مدرسيَّةٍ توفِّر للطّالب أجواءً من الأمان والاطمئنان والدَّعم لتحقيق الانتماء. ولتبنّي هذا المفهوم، لا بدَّ من الارتكاز على تعزيز القيم والعلاقات والرَّوابط الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة داخل البيئة المدرسيَّة بين الطُّلّاب والمعلِّمين والإداريّين وتطويرها. في ما يأتي عرضٌ لبعض أساليب تعزيز السُّلوك الاجتماعيِّ:
التَّربية الأخلاقيَّة: وذلك بتضمين المنهج التَّعليميِّ موادَّ تقوم على تدريس الطُّلاب قيمًا تنظِّم سلوكهم وتهذِّبه، كالاحترام والودِّ واللُّطف والتَّسامح والتَّعاون والتَّعاطف … وتُبرز أهمِّيَّة هذه القيم في تكوين بيئةٍ أخلاقيَّةٍ مثاليَّةٍ. هذا إلى جانب إقامة ورش عملٍ ومحاضراتٍ تهدف إلى تنمية الوعي الأخلاقيِّ والوجدانيِّ لدى الطُّلّاب.
الأنشطة الجماعيَّة: وذلك بجعل الطُّلّاب يتلاقون في أنشطةٍ ثقافيَّةٍ ورياضيَّةٍ وفنِّيَّةٍ من شأنها تعزيز العمل الجماعيِّ، وتنمية روح العمل الفريقيِّ ما يتيح لهم التَّلاقي والتَّفاعل خارج إطار الفصل الدِّراسيِّ.
تفعيل التَّواصل والحوار: بهدم الحواجز بين الطُّلّاب أنفسهم من جهةٍ، وبينهم وبين معلِّميهم من جهةٍ أخرى. وذلك عبر إقامة جلساتٍ حواريَّةٍ، أو منتدياتٍ ثقافيَّةٍ أو حتّى خلق مجموعاتٍ دراسيَّةٍ وتفعيل المشاركة وتبادل الأفكار والآراء والمعلومات.
التَّقدير والتَّنويه: والمقصود بذلك الإشادة بالطّالب الأخلاقيِّ، ودعمه وتحفيزه للمضيِّ قُدُمًا في منهجه السُّلوكيِّ الحضاريِّ. ويكون ذلك بتقديم جوائز وشهاداتٍ للطّالب المتميِّز سلوكيًّا: الأمر الَّذي يخلق جوًّا إيجابيًّا محفِّزًا وداعمًا لمزيدٍ من الإيجابيَّة.
الإرشاد والدَّعم: وذلك بتوفير خدماتٍ استشاريَّةٍ ودعمٍ نفسيٍّ للطُّلّاب بهدف معالجة مشاكلهم النَّفسيَّة والسُّلوكيَّة، وتقديم حلولٍ عمليَّةٍ للتَّعامل مع مواقف اجتماعيَّةٍ قوامها الاستبعاد كالتَّنمُّر والتَّمييز والعزلة … وهذا من شأنه أن يمنح الطّالب قيمةً لذاته ويشعره بالاطمئنان والأمان على المدى البعيد.
هذه الأساليب وغيرها من الأساليب من شأنها بناء بيئةٍ مدرسيَّةٍ إيجابيَّةٍ وسليمةٍ، ولكنَّها تُطبَّق بمؤازرة الأهل والمجتمع المحلِّيِّ لتبادل الخبرات والملاحظات. وذلك كلُّه في سبيل ترسيخ القيم في عقول الأفراد والجماعات وضمان سلامة التَّنشئة للأجيال المتعاقبة، وبالتّالي سلامة المجتمعات.
ختامًا، إنَّ تبنّي ثقافة البيت الثّاني في تعزيز السُّلوك الاجتماعيِّ للطُّلّاب ليس مجرَّد هدفٍ تربويٍّ، بل استثمارٌ طويل الأمد في مستقبل الأجيال القادمة، وإجراءٌ استراتيجيٌّ أخلاقيٌّ يمكِّننا من بناء مجتمعٍ متماسكٍ وقويٍّ قادرٍ على التَّعامل مع تحدِّيات المستقبل بروح التَّعاون والتَّضامن. وهو يتطلَّب التزامًا وتضامنًا وجهدًا مشتركًا من جميع الأطراف. ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا من خلال تبنّي القيم الاجتماعيَّة والمثل العليا كركائز أساسيَّةٍ في حياتنا اليوميَّة.
أحمد يمّين
مدرّس ومدرب
متخصص في استراتيجيات التعليم عن بُعد
حاصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها (البحث واللغويات)