تقرير | أحمد يمّين
المقدمة
يهدفُ هذا التَّقريرُ إلى تحليلِ ورقةِ المبادئِ التوجيهيةِ لتحقيقِ المساواةِ بينَ الجنسينِ في التعليمِ، التي نشرتها منظمةُ الأممِ المتحدةِ للتربيةِ والعلمِ والثقافةِ (اليونسكو) في عامِ 2008. تستعرضُ الورقةُ توجيهاتٍ أساسيةً لتحسينِ المساواةِ بينَ الجنسينِ في الأنظمةِ التعليميةِ حولَ العالمِ، مشددةً على احترامِ حقوقِ الإنسانِ والأخلاقياتِ الإنسانيةِ، وتمكينِ الفئاتِ المهمشةِ.
تسعى الورقةُ إلى تعزيزِ المساواةِ بينَ الجنسينِ من خلالِ تطويرِ خططٍ تعليميةٍ تراعي الفوارقَ الجندريةَ، وضمانِ حقِّ التعليمِ للجميعِ بما يتوافقُ مع المعاييرِ الدوليةِ لحقوقِ الإنسانِ. تركزُ الوثيقةُ بشكلٍ خاصٍّ على تحسينِ الوصولِ إلى التعليمِ للفتياتِ والنساءِ في المناطقِ الريفيةِ والنائيةِ، وتدعو إلى تعزيزِ دورِ الفئاتِ الضعيفةِ والمهمشةِ في النظامِ التعليميِّ.
وتكتسبُ هذه الورقةُ أهميةً خاصةً بالنسبةِ للأممِ المتحدةِ باعتبارها أداةً استراتيجيةً تعززُ التزامَ المنظمةِ بالمساواةِ بينَ الجنسينِ وتمكينَ النساءِ والفتياتِ كجزءٍ من أجندةِ التنميةِ المستدامةِ. كما تعكسُ التزامًا بالمعاييرِ الدوليةِ وتعزيزَ حقوقِ الإنسانِ، مما يسهمُ في تحقيقِ الأهدافِ العالميةِ المتعلقةِ بتعليمٍ شاملٍ وعادلٍ. لقد كانتِ الورقةُ ناجحةً في تعزيزِ الوعيِ بأهميةِ المساواةِ بينَ الجنسينِ في التعليمِ، ووضعتْ أسسًا لسياساتٍ وممارساتٍ تعليميةٍ مبتكرةٍ. ورغمَ ذلكَ، يتطلبُ تحقيقُ أهدافِها التنفيذَ الفعّالَ والاستراتيجياتَ المرنةَ لمواجهةِ التحدياتِ المتغيرةِ في سياقِ التعليمِ العالميِّ
أوَّلًا: احترام حقوق الإنسان
أ- المساواة بين الجنسيـن
تؤكِّد الورقة على أهمِّيَّة تحقيق المساواة بين الجنسين من خلال خططٍ تعليميَّةٍ تراعي الفوارق الجندريَّة وتسعى لتقليصها. يشير ذلك إلـى التزامٍ واضحٍ بمبادئ حقوق الإنسان، خصوصًا فيما يتعلَّق بالمساواة وعدم التَّمييز. يبرز هذا الجانب فـي النِّقاط الَّتي تتناول ضرورة ضمان حصول الفتيات على التَّعليم والتَّأهيل المهنيِّ والتَّزويد بالمهارات الحياتيَّة بنفس القدر المتاح للذُّكور، خاصَّةً فـي المناطق الرّيفيَّة. هذا إلـى جانب الاعتراف بأنَّ الفتيان يعانون من ظروفٍ مماثلةٍ في مناطق متعدِّدةٍ من هذا العالم، ما يستوجب التَّعامل المماثل لضمان المساواة بينهما فتيانًا كانوا أم فتياتٍ.
ب- ضمان الحقِّ فـي التَّعليم
تتبنّى الورقة رؤيةً شاملةً تضمن حقَّ الجميع فـي الحصول على التَّعليم. يعتبر التَّعليم حقًّا أساسيًّا من حقوق الإنسان، والتزام الورقة بتقديم فرصٍ تعليميَّةٍ متساويةٍ للجميع يعكس توافقها مع المعايير الدَّوليَّة لحقوق الإنسان. تشمل هذه الجهود تحسين الوصول إلـى التَّعليم وتقديم الدَّعم للفئات الضَّعيفة والمهمَّشة. وتعدَّدت الاقتراحات حول ذلك برصد آليّات الوصول إلـى المدارس ومدى سلامتها بالنِّسبة إلى الفتيات من جهةٍ ومدى سلامة الطُّرق المؤدِّية إلى هذه المدرسة. والحديث في ذلك قائمٌ على دور المرأة التَّقليديِّ في الأسرة القائم على الرِّعاية وتلبية حاجاتها. وبالتّالي، لن تتخلى الأسرة عن هذا الدَّور مقابل هذه المخاطرة. وتعدُّ هذه الخطوة من ضمن المساعي والجهود الَّتي تتبنّاها وترعاها منظَّمة الأمم المتَّحدة للثَّقافة والتَّعليم فـي سبيل تعزيز التَّعليم الشّامل أو الدّامج.
ج- تمكين الفئات المهمَّشة
تسلِّط الورقة الضَّوء على ضرورة تعزيز دور الفئات الضَّعيفة والمهمَّشة، وتمكينها باعتبارها عنصرًا بشريًّا وإنسانيًّا له كينونته وخصوصيَّته. وهي تشدِّد بذلك على تمكين الفتيات والنِّساء فـي الأرياف والمناطق النّائية وضرورة الوصول إليهنَّ لتأمين حقوقهنَّ في التَّعليم والتَّأهيل اللّائق المناسب لمستجدّات العصر وللظُّروف الحياتيَّة المستجدَّة. يعدُّ ذلك جزءًا من الجهود الرّامية إلـى تعزيز الحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لهذه الفئات، وهو ما يتماشى مع الأهداف العالميَّة لتعزيز حقوق الإنسان وتوفير فرصٍ متساويةٍ للجميع.
ثانيًا: الأخلاقيّات الإنسانيّة
أ- الشَّفافيَّة والمساءلة
تدعو الورقة إلـى تطبيق مبادئ الشَّفافيَّة والمساءلة فـي جميع مراحل تنفيذ البرامج التَّعليميَّة. بدءًا بعمليَّة جمع المعلومات اللّازمة وصولًا إلـى تحقيق الهدف المنشود. وهي عمليَّاتٌ مسحيَّةٌ تحليليَّةٌ تقوم على جمع البيانات والمعلومات ممّا يمكن توفيره من قواعد البيانات التَّربويَّة إلـى جانب الوثائق والأطروحات والدِّراسات والأبحاث المنشورة وغير المنشورة. يعدُّ ذلك أمرًا ضروريًّا لضمان النَّزاهة والعدالة في تخصيص الموارد وتطبيق السِّياسات. إنَّ التزام الورقة بالشَّفافية يعزِّز من مصداقيَّتها ويعكس احترامها للأخلاقيّات المهنيَّة والإداريَّة، وموضوعيَّتها فـي تناول جوانب المشكلة تناولًا علميًّا منطقيًّا.
ب- احترام الكرامة الإنسانيَّة
يظهر النَّصُّ احترامًا واضحًا للكرامة الإنسانيَّة من خلال التَّأكيد على أهمِّيَّة التَّعليم كوسيلةٍ لتمكين الأفراد والمجتمعات. التَّعليم هنا ليس مجرَّد هدفٍ بحدِّ ذاته، بل أداةٌ لتعزيز الكرامة الإنسانيَّة وتحقيق العدالة الاجتماعيَّة. ويمكن الإشارة إلـى أنَّ الوثيقة تلتزم وتحترم العادات والتَّقاليد الخاصَّة بكلِّ مجتمعٍ، وتنبِّه إلـى ضرورة نشر الوعي والثَّقافة بطرقٍ عقلانيَّةٍ وعمليَّةٍ فـي هذه المجتمعات دون التَّصادم معها.
ج- احترام خصوصيَّة كلٍّ من الجنسين
يظهر ذلك بإيلاء الورقة راحة كلٍّ من الجنسين واحترام خصوصيّاته وحقوقه وهويَّته وكينونته جانبًا من الاهتمام، واعتباره خطوةً مهمَّةً للتَّقدُّم نحو الهدف الأسمى. فبتأمين المدارس على النَّحو الَّذي يشعر الفتيات بالرّاحة الجسديَّة والنَّفسيَّة، يمكن تغيير الرَّؤية النَّمطيَّة الَّتي ينظر من خلالها إلى هذه البيئة الغنيَّة. لذلك، تمَّ تسليط الضَّوء على هذه الخصوصيَّات من جهةٍ، وضرورة تدريب المعلِّمين وتحسيسهم على مسائل الجندر من جهةٍ أخرى. هذا إلى جانب تقديم التَّوجيه والإرشاد الدّائمين للفتيات نحو الاختصاصات العلميَّة والفنِّيَّة دون ثنيهنَّ عنها.
ثالثًا: الاستراتيجيّات المقترحة
أ- الهدف
تحمل الوثيقة المعالجة هدفًا أسمى، يرتكز على هدم الفجوات الجندريَّة في سبيل ضمان حقِّ الإناث في التَّعليم. يندرج تحته سلسلةٌ من الأهداف المترابطة كخفض معدَّل التَّسرُّب لدى الفتيات وسدِّ الثَّغرات لجهة التَّحصيل التَّعلُّميِّ، إلى جانب زيادة عدد الفتيات في مجالي العلوم والرِّياضيّات. وهنا يلاحظ التَّشديد على الموضوع العامِّ دون إغفاله باعتباره ظاهرةً لا بدَّ من مواجهتها في سبيل بناء المهارات وتعزيز القدرات ثم تدعيم المجتمعات.
ب- الاستراتيجيّات
تقوم الاستراتيجيّات المعروضة على دمج المسائل المتعلِّقة بالجندر في عمليَّة التَّخطيط للتَّعليم للجميع وتحسيس المعنيّين لصياغة هذا التَّخطيط على المسائل المتعلِّقة بالجندر من خلال النَّدوات وورش العمل الَّتي تركِّز على النَّهج التَّشاركيِّ. وتعترف الوثيقة بأنَّ هذه الاستراتيجيّات لا بدَّ من أن تكون دقيقةً وملائمةً لكلّ بلدٍ. كما تشدِّد الوثيقة على دمج المسائل المتعلِّقة بالجندر ضمن نظام التَّربية العامِّ.
ولا تخلو الوثيقة من عرض أهمِّيَّة قيام الحكومات بحملة وعيٍ وتدريب على المهارات الخاصَّة بالجندر، وكذلك أهمِّيَّة توظيف وتعيين خبراء في هذه المسائل بهدف الإشراف على استراتيجيَّة الدَّمج ودعمها وتطبيقها. ولتحقيق الأهداف المذكورة آنفًا، ضمَّنت الوثيقة استراتيجيّاتٍ كتوفير المنح والدَّوافع وتأمين النَّقل والسَّكن وتوفير بيئات تعلُّمٍ للجنس الواحد. هذا بالإضافة إلـى تحسين نوعيَّة البيئة التَّعليميَّة ومواءمة التَّعليم الموفَّر من جهةٍ وتحسين العلاقات بين الأهل والمدرسة، إلى جانب توفير أساتذةٍ من النِّساء والحرص على الإنصاف في مضامين التَّعلُّم ومنهجيَّة التَّعليم بما يسمح بإحداث تغييرٍ في الممارسات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة.
كما أنَّ استراتيجيّاتٍ مثل توسيع العناية بالطُّفولة المبكِّرة وتربيتها، والدَّعوة إلى توفير برامج تعليميَّةٍ غير نظاميَّة للفتيات اللَّواتي أخرجن من المدرسة في وقتٍ مبكِّرٍ مهمَّةٌ لتمكين الإناث من الحصول على فرصةٍ أكبر بالوصول إلى الوظائف من جهةٍ والتَّعلُّم من جهةٍ أخرى. ولعلَّ هذه البرامج تقوم على آليَّة الدَّعم ومحو الأمِّيَّة وهي لا تقتصر على الفتيات أو المراهقات وحسب، إنَّما تشمل النِّساء أيضًا. وهي استراتيجيّاتٌ مهمَّةٌ للإحاطة بالقضيَّة من مختلف جوانبها.
رابعًا: نقد الاستراتيجيَّات المقترحة
أ- فعّاليَّة التَّنفيذ
مع أنَّ الورقة تقدِّم أهدافًا طموحةً، إلّا أنَّ نجاح هذه الأهداف يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على فعّاليَّة التَّنفيذ. قد تواجه البرامج التَّعليميَّة تحدِّياتٍ تتعلَّق بنقص الموارد أو الدَّعم اللّوجستيِّ. لذا، ينبغي على الورقة تقديم خططٍ تنفيذيَّةٍ أكثر تفصيلًا وواقعيَّةً لضمان تحقيق الأهداف المرجوَّة. بالإضافة إلـى أنَّ بعض الاستراتيجيّات غير واضحة المعالم كحشد الموارد من مختلف الوزارات، وآليَّة دعم هذه العمليّات والإجراءات: فعجز بعض الأنظمة وتردّي بنيتها التَّحتيَّة سيترجم في عجزها عن اتِّخاذ أيِّ إجراءاتٍ في هذا الميدان، وبالتّالي ارتفاع الأعباء الإجرائيَّة والتَّشغيليَّة على موازنات هذه الأنظمة. كما أنَّ كثيرًا من الدُّول تهمِّش نسبةً كبيرةً من المناطق النّائية أو ذات هويّاتٍ ثقافيَّةٍ معيَّنةٍ، وبالتّالي فلا معلوماتٍ فعليَّةٍ ولا إحصاءات لهذه الدُّول عن هذه المناطق.
ب- المرونة فـي مواجهة التَّغيُّرات
تواجه السِّياسات التَّعليميَّة عادةً تغيُّراتٍ اقتصاديَّةٍ واجتماعيةٍ قد تؤثِّر على تنفيذها. من المهمِّ أن تتَّسم الاستراتيجيّات المقدَّمة بالمرونة الكافية للتَّكيُّف مع هذه التَّغيُّرات، بما يضمن استمرار العمل على تحقيق الأهداف حتّى فـي ظلِّ الظُّروف المتغيِّرة. فبموازات الدَّعوة إلى المساواة بين الجنسين، يمكن التَّشجيع على خلق المدارس الرَّقميَّة المعدعَّمة بواقعٍ افتراضيٍّ يمنح الفتيات القدرة على التَّعلُّم دون الحاجة إلى تكبُّد عناء الطَّريق ومشقَّة الوقت أو التَّعرُّض لمختلف المخاطر المرافقة للتَّنقُّل. وهنا مسؤوليَّةٌ جديدةٌ تكمن في القدرة على إيصال مظاهر التِّكنولوجيا إلى المناطق الرّيفيَّة النّائية، وربط الواقع الافتراضيِّ بالواقع. ولا شكَّ في أهمِّيَّة تطوير بنيةٍ تحتيَّةٍ رقميَّةٍ قد تبدو أكثر انضباطًا وأقلَّ هدرًا للأموال العامَّة.
الخلاصة
تعكس ورقة التَّوجيهات التزامًا قويًا بحقوق الإنسان والأخلاقيّات الإنسانيَّة، من خلال تبنّيها لمبادئ المساواة، والشَّفافيّة، واحترام الخصوصيَّة الفرديَّة والجماعيَّة ومراعاة ضوابط المجتمعات من عاداتٍ وتقاليد سائدةٍ وتمكين الفئات المهمَّشة. ومع ذلك، يتطَّلب نجاح هذه الجهود تنفيذًا فعّالًا واستراتيجياتٍ مرنةٍ لضمان تحقيق النَّتائج المرجوَّة على أرض الواقع إلـى جانب ضرورة ضمان تأمين مصادر معلوماتٍ ووثائق تقدِّم بياناتٍ عميقةٍ وشاملةٍ. وعليه، فالمطلوب التَّعمُّق فـي جوانب التَّنفيذ وتقييم المخاطر لضمان تحقيق الأهداف المعلنة بطريقةٍ مستدامةٍ وعادلةٍ. ولا تكفي المساواة وحدها للحفاظ على الكرامة الإنسانيَّة، فهي فـي بعض الأحيان جائرةٌ بحقِّ الجنس الثّانـي. وهنا لا بدَّ من الموازنة بين العدل والمساواة فـي سبيل الحفاظ على موازنةٍ بين الجنسين، سواءٌ أكان ذلك من جهة الموظَّفين والعمليَّة التَّوظيفيَّة فـي قطاع التَّعليم أو من جهة التَّعليم نفسه. لذلك، يمكن إدراج قضيَّة مرونة نظام التَّعليم بالدَّرجة الأولـى وقيامه على قاعدةٍ اختياريَّةٍ تراعي الحاجات والتَّطلُّعات الفرديَّة والجماعيَّة بموازات التَّطوُّر السَّريع الَّذي يفرض نفسه بنفسه، وضرورة مراعاة المسؤوليّات الاجتماعيَّة والنَّمطيَّة المتباينة. والمقصود بذلك دراسة أثر كلِّ خطوةٍ استراتيجيَّةٍ على مختلف الأصعدة لضمان سلامة الإجراء وأمان الأثر.
أحمد يمّين
مدرّس ومدرب
متخصص في استراتيجيات التعليم عن بُعد
حاصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها (البحث واللغويات)