مقال | د. محمد بوبوش
لطالما مثّل الدين دورًا جوهريًا في صناعة القرار، خاصة في الدول التي تعتمد عليه في إدارة شؤونها السياسية، وتستمد منه قوانينها ودساتيرها. وقد اتخذت العديد من الدول، لا سيما الكبرى منها، عقيدتها الدينية جزءًا من سياساتها الخارجية للتأثير على الدول الأخرى التي تشترك معها في نفس العقيدة.
تلعب المؤسسات الدينية دورًا بارزًا في السّياسة الدولية والعلاقات بين الكيانات المختلفة، وذلك لما تمتلكه من سلطة ونفوذ على مجموعاتٍ كبيرة من الأفراد الذين ينتمون إلى عقائد دينية متنوّعة. تمارس هذه المؤسّسات، مثل «الفاتيكان» والمرجعيات الدينية الإسلامية وغير الإسلامية، سواء كانت دولية أو محلية، تأثيرها في توجيه العقائد والأفكار السياسية والإجتماعية للأفراد، الأمر الذي قد يتعارض أحيانًا مع سياسات الدول وتوجهاتها. وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى صدامات، غير معلنة غالبًا، بين هذه المؤسسات والدولة نفسها. وقد أصبح لبعض هذه المؤسسات نفوذ كبير داخل الدول التي تعتمد على الدين في العديد من شؤونها الداخلية.[1]
خلال العقود الماضية، ازداد دور دولة «الفاتيكان» بوصفها أحد الأطراف الفاعلة في تعزيز منظومة السلام العالمي. فقد أسس هذا الدور على دعوة صريحة لإحياء المفاهيم الأخلاقية والمعيارية في السياق الدولي، سعيًا لإرساء إطار يحد من الاعتماد المتزايد على المقاربات الواقعية، والتي أسفرت عن تفاقم الصراعات والأزمات على الساحة العالمية.
ولفهم طبيعة هذه المؤسسة، يجب التفريق بوضوح بين دولة الفاتيكان والكرسي الرسولي
أ- «الكرسي الرسولي» هو السلطة العليا المجردة التي يمارسها البابا على جميع الكاثوليك في العالم، الذين يقدر عددهم حاليًا بحوالي مليار ومئة ألف نسمة. ورغم أن هذه المؤسسة لا تمتلك أراضي بحد ذاتها، إلا أنها معترف بها من قبل جميع المنظمات الدولية.
ب- دولة مدينة «الفاتيكان»، التي تعد أصغر دولة في العالم، إذ لا تتجاوز مساحتها نصف كيلومتر مربع. تقوم هذه الدولة بدور داعم لأنشطة الكرسي الرسولي، وتسعى للحفاظ على تراثه الديني والفني والثقافي. «البابا» هو السلطة العليا المطلقة فيها، يجمع بين جميع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. بمعنى آخر، الفاتيكان يمثل أداة لضمان حرية واستقلالية الكنيسة الكاثوليكية، وبخاصة الكنيسة العالمية التي يسعى الفاتيكان إلى تأسيسها وفقًا لتعاليم الكاثوليكية الرومانية.
وقد تمكن الفاتيكان من صياغة دور له في النظام العالمي يطمح إلى تحقيق السلام والاستقرار. وقد ارتبط هذا الدور بعددٍ من المحدِّدات الجوهرية تتمثل فيما يلي: [2]
إعادة صياغة السياسة الخارجية
لقد لعب بابوات الفاتيكان على مر العقود دورًا محوريًا في إعادة تحديد موقع الفاتيكان داخل النظام العالمي، مما أضفى مزيدًا من الزخم على سياستها الخارجية وزاد من نفوذها الروحي خارج حدود الدولة. ومن بين هذه الجهود البارزة، يأتي «المجمع الفاتيكاني الثاني»، الذي روّج لمهمة إنسانية عالمية وأكد على أن ”الكنيسة يمكن أن تسهم في جعل العالم أكثر إنسانية“. في هذا السياق، يُعد «البابا يوحنا بولس الثاني»، الذي قاد الفاتيكان من أكتوبر (تشرين الأول) 1978 حتى أبريل (نيسان) 2005، واحدًا من أبرز الشخصيات في تاريخ الفاتيكان المعاصر.
سعى البابا «يوحنا بولس الثاني» إلى صياغة دور مؤثر للسياسة الخارجية للفاتيكان في خضم الحرب الباردة، ملتزمًا بتعزيز دور الكنيسة الكاثوليكية استنادًا إلى أربعة مبادئ أساسية: حماية استقلال الكنيسة، واحترام كرامة الإنسان، وتعزيز المشاركة الدينية، والمصالحة مع الدول، بالإضافة إلى الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما حرص البابا على الحفاظ على رسالة رجال الدين ومهامهم، حيث حثهم على تجنب التورط في السياسة الحزبية أو حتى تفسير المسيحية من منظور الأفكار الماركسية
أظهرت رؤى البابا «يوحنا»، الذي وُصف في العديد من الأدبيات كفاعل جيوسياسي بارز في السياسة العالمية آنذاك، أفقًا جديدًا للسياسة الخارجية للفاتيكان. وقد استمر هذا الأفق في التوسع حتى بعد رحيله، مع قدوم بابوات جدد عززوا صورة الفاتيكان كمساهم في السلام العالمي ووسيط في النزاعات التي شهدتها عدة دول. بالإضافة إلى ذلك، كرّس الفاتيكان جهوده في الدعوة إلى نزع السلاح النووي الذي يهدد السلام والاستقرار العالميين.[3]
إعادة بناء الصورة
تتطلب الحفاظ على سمعة الفاتيكان وصورته الأخلاقية العناية بالإرث التاريخي للكنيسة الكاثوليكية، خاصة في ظل التحولات التي شهدتها أدوات السياسة الخارجية والعلاقات بين الدول والمجتمعات، والتركيز على الصورة العامة للفاعلين العالميين. أو بعبارة أخرى، كما وصف «فان بيتر هام»، ”الانتقال من عالم الحداثة القائم على الجغرافيا السياسية والسلطة إلى عالم ما بعد الحداثة الذي يستند بشكل أساسي إلى الصور والنفوذ“.
وفي هذا السياق، اعتذر البابا «يوحنا بولس الثاني» خلال قداس أقيم في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2000، عن العنف الذي ارتكبته الكنيسة الكاثوليكية في الماضي. وقد كرر هذا الاعتذار الباباوات اللاحقون، بمن فيهم البابا الحالي، البابا «فرانسيس»، الذي قدم اعتذارًا علنيًا وطلب المغفرة عن “الخطايا الجسيمة” التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية خدمةً للاستعمار.
الانفتاح الخارجي
سعى «الفاتيكان» إلى تبني سياسة انفتاح خارجي على جميع القوى العالمية، محاولاً تقليل الخلافات التاريخية مع بعض الدول، مثل «الصين». تعود هذه الخلافات إلى سنوات طويلة نتيجة لأثر السياسات الشيوعية الماضية التي انتهجتها «بكين» على الكنيسة المحلية في الصين، والتي كانت قد رفضت الحفاظ على العلاقة مع الفاتيكان، بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين.
أسفرت سياسة الانفتاح التي تبنّاها الفاتيكان تجاه «الصين» عن توقيع اتفاق في سبتمبر (أيلول) 2018، يُتيح للفاتيكان الإدلاء برأيه في تعيين الأساقفة ويمنح البابا سلطة رفض المرشحين. ورغم أن الفاتيكان وصف هذا الاتفاق بأنّه “راعوي” وليس “سياسي”، فإنّه يحمل في طياته إحتمالات عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين.
علاوة على ذلك، واصل الفاتيكان سياسته في الانفتاح الخارجي بالتحاور والتعايش مع الأديان والمذاهب الأخرى، متجاوزاً بذلك أطروحات الصراع والصدام بين الحضارات والأديان. في هذا السياق، تبرز أهمية «وثيقة الأخوة الإنسانية»[4] التي تم التوقيع عليها بحضور شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان في 4 فبراير (شباط) 2019، خلال منتدى حوار الأديان بدولة «الإمارات»، بحيث تدعو الوثيقة إلى التسامح والتصالح بين أتباع الديانات المختلفة.[5]
الوساطة في الصراعات
منحت المعطيات السابقة للفاتيكان مكانة متميزة للتدخل في الصراعات الدولية وبذل جهود الوساطة لتحقيق الاستقرار العالمي. وقد تجلّى ذلك في المواقف الحذرة التي اتخذتها الكنيسة تجاه تأييد قرارات الدول بالدخول في حروب، كما حدث خلال “حرب العراق” عام 2003، حينما رفض الفاتيكان، بقيادة البابا يوحنا بولس الثاني آنذاك، الغزو الأمريكي للعراق، معتبرًا أن هذا الغزو يمثل اعتداءً على الأرواح والممتلكات في بلد مستقل.
وقد برز دور الفاتيكان في منظومة السلام العالمي من خلال تعامله مع عدد من الملفات الهامة، أبرزها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد واصل البابا «فرنسيس» النهج الذي اتبعه أسلافه من باباوات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية فيما يتعلق بـ”الأرض المقدسة”. ولعل من المثير للإعجاب أن نجد تطابقًا واضحًا في مواقف البابا فرنسيس مع مواقف الباباوات السابقين، مما يؤكد الثبات والاتساق في موقف الفاتيكان تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.
يرجع موقف الفاتيكان الرافض لفكرة إقامة وطن لليهود في «فلسطين» إلى زمن بعيد، فقد رفضت حاضرة الفاتيكان مقترح «تيودور هيرتزل» بهذا الشأن في السادس والعشرين من يناير (كانون الثاني) عام 1904، عندما التقى «هيرتزل» بالبابا «بيوس العاشر» لطلب دعمه في إقامة دولة يهودية على الأرض الفلسطينية. حينها أجابه البابا «بيوس العاشر» قائلاً: “نحن لا نستطيع أن نساند هذه الحركة الصهيونية، وأنا بصفتي رئيسًا للكنيسة لا يمكنني إلا أن أرفضها، لأن اليهود لم يعترفوا بسيدنا يسوع المسيح، وبالتالي لا يمكننا الاعتراف بحقهم في القدس”. وعلى هذا الأساس العقائدي المختلف جذريًا، رفض الفاتيكان أيضًا «وعد بلفور» الذي صدر في عام 1917، رغم اعتراف القوى الكبرى به في ذلك الوقت. ورغم أن البابوية لا تملك القوة العسكرية لفرض إرادتها، فإنها لم تتخلَّ عن موقفها الأخلاقي الرافض لفكرة تقسيم القدس بين العرب واليهود، وظلت تميل إلى فكرة تدويل «القدس».[6]
يُقيم الفاتيكان علاقات دبلوماسية مع كلٍ من السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ويتبنى موقفًا متوازنًا تجاه الصراع يقوم على تدويل القدس، مما يجعله يرفض الاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، كما يؤكد على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم في إطار حل الدولتين. وفي يونيو (حزيران) 2015، وقع الفاتيكان اتفاقية مع السلطة الفلسطينية، مجددًا دعمه لحل الدولتين، وقد عُدّت هذه الاتفاقية بمثابة اعتراف ضمني بـ«فلسطين» كدولة.
ختامًا، إنّ استمرار الدور العالمي للفاتيكان مرهونٌ بقدرته على الحفاظ على صورته الأخلاقية وحياديته، وبتفاديه ارتهان سياسته الخارجية لأبعاد براجماتية تحكم سياسات بعض الدول؛ وهو الرصيد الأثمن الذي تعتمد عليه جهود وساطة الفاتيكان في خضم الصراعات المعقدة.
[1] -كوثر الياسري: الفواعل من غير الدول في العلاقات الدولية، موقع الحوار المتمدن، العدد4802 بتاريخ 10/05/2015 على الرابط: https: //bit.ly/3mq2nur
[2]-محمد بسيوني: المكانة الأخلاقية الأدوار المتعددة للفاتيكان في بناء السلام العالمي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة الأربعاء, 06 فبراير, 2019، على الرابط:
https: //futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/4530
[3] -محمد بسيوني: المكانة الأخلاقية، المرجع السابق.
[4] وثيقة الأخوة الإنسانية والعيش المشترك، ، اللجنة العليا للأخوة الإنسانية
[5] -محمد بسيوني: المكانة الأخلاقية.، المرجع السابق.
[6] – قضية فلسطين حقيقة عادلة يتوارثها بابوات «الفاتيكان»، الخليج الإماراتية، بتاريخ 3 يوليو 2020 على الرابط: https://bit.ly/3otcZv5
د. محمد بوبوش
أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي
جامعة محمد الأول، وجدة – المغرب