تقرير | شروق مستور
شهدت مرحلة ما بعد الحرب الباردة نمطًا جديدًا من الحروب والنزاعات الدولية، ما دفع الأمم المتحدة إلى زيادة دورها في حفظ السلام والأمن الدوليين من خلال تبني حلول سياسية، اقتصادية، وأحيانًا عسكرية. تمتلك الأمم المتحدة سجلًا متنوعًا من عمليات حفظ السلام التي تفاوتت بين النجاح والإخفاق. وكأي منظمة دولية، تخضع الأمم المتحدة للتقييم المستمر بهدف تحسين أدائها، خاصة فيما يتعلق بتقييم بعثات بناء وحفظ السلام. يشمل ذلك مقاربة المنظمة في بناء السلام وعلاقاتها مع الفاعلين المحليين، إضافة إلى التساؤلات حول قدرتها على تحقيق سلام مستدام.
تحليل كفاءة هذه البعثات في حل النزاعات وحفظ السلام أمر ضروري، مع التركيز على الجوانب الأخلاقية والإنسانية التي قد تتعارض أحيانًا مع المتطلبات الأمنية، خاصة في مناطق النزاعات الدولية المعقدة. يدفعنا ذلك إلى مراجعة مدى تطابق مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة ببعثات السلام مع التطبيق الفعلي لقواعد وأخلاقيات الأمم المتحدة في هذا السياق.
وعلى الرغم من التقييم المستمر للفعالية العملية لبعثات حفظ السلام ومدى استجابتها للتحديات، والبحث عن أطر لحماية الأفراد العاملين فيها، فإن البعد الأخلاقي لهذه البعثات فيما يتعلق بالمهام، الالتزامات والتجاوزات، غالبًا ما يُهمل. لهذا السبب، نهدف من خلال هذا التقرير إلى فتح المجال أمام توجه بحثي جديد يتمثل في دراسة التحديات الأخلاقية التي تواجه بعثات السلام؛ وننطلق للبحث في موضوع الدراسة من الإشكالية المحورية، وهي: ما مدى التزام عمليات حفظ السلام بالقوانين والمبادئ المعمول بها؟ وما هي التحديات الرئيسية التي تؤثر على فعاليتها وأخلاقياتها
ماهية بعثات حفظ السلام ومسؤولياتها في مناطق النزاع
وفقا للموقع الرسمي للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام، هناك حاليًا 11 عملية حفظ سلام في مناطق مختلفة حول العالم تشمل فلسطين، لبنان، سوريا، الصحراء الغربية، جمهورية الكونغو الديمقراطية، كوسوفو، جمهورية أفريقيا الوسطى، السودان، الهند وباكستان، وقبرص. تعتبر هذه البعثات أدوات أساسية للأمم المتحدة لمساعدة الدول المتضررة من النزاعات على الانتقال من حالة الصراع إلى السلام.
تشمل عمليات حفظ السلام التدخلات العسكرية التي تهدف إلى الحفاظ على السلام بعد توقف القتال. عادةً ما تتضمن هذه العمليات دعم تنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار أو الهدنات، بالإضافة إلى تقديم الدعم للجهود الدبلوماسية لتحقيق تسوية سياسية دائمة. يمثل أفراد قوات حفظ السلام كل من الأمم المتحدة وبلدانهم الأصلية، وتؤثر تصرفاتهم، سواء كانت إيجابية أو سلبية، على نجاح المهمة بشكل عام. لذلك، تواجه بعثات حفظ السلام الدولية العديد من التحديات الأخلاقية المرتبطة بتصرفاتهم وسلوكهم بما في ذلك التزامهم بتنفيذ مهامهم دون تجاوزات.
من بين صلاحيات بعثات حفظ السلام
اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لاستقرار وحفظ وتأمين المواطنين
استخدام القوة لحماية التواجد المدني الدولي وأي منظمة دولية أو غير حكومية تعمل في المنطقة
حرية دخول إقليم الدولة المضيفة التنقل داخله، مع الزامية تسهيل ذلك من قبل الدولة المضيفة
الاتفاق مع الدولة المضيفة على نوعية الأسلحة التي يمكن حملها وحيازتها، وحل أي إشكاليات ناتجة عن استخدامها أثناء قيام قوات حفظ السلام بمهامها
توسع عمليات حفظ السلام
توسعت عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لتشمل مجموعة من الأنشطة والمهام المستحدثة التي أُوكلت إلى عمليات حفظ السلام منذ عام 1988، ومنها:
مراقبة وإدارة الانتخابات: مثال ذلك أحداث ناميبيا، السلفادور، أنغولا، كمبوديا والموزمبيق.
حماية السكان من التهديدات: سواء كانت الأغلبية أو الأقليات من التهديد أو استخدام القوة – بما في ذلك من قبل حكومة المنطقة و/أو البلد (جزء من الوظيفة في المناطق المحمية الثلاث للأمم المتحدة في كرواتيا).
تأمين تقديم الإغاثة الإنسانية: وأداء مجموعة واسعة من المهام الإنسانية الأخرى خلال النزاعات (خصوصًا في يوغوسلافيا السابقة والصومال).
المساعدة في إعادة بناء بعض الوظائف الحكومية أو الشرطة بعد الحرب الأهلية: بما في ذلك في السلفادور وكمبوديا.
المساعدة في نزع سلاح المحاربين السابقين وتسريحهم وإعادة دمجهم.
ومع تغير طبيعة النزاعات الدولية،ظهر جيل جديد من عمليات حفظ السلام “متعددة الأبعاد” التابعة للأمم المتحدة. عادةً ما يتم نشر هذه العمليات في أعقاب نزاع داخلي عنيف وتستخدم مزيجًا من القدرات العسكرية والشرطية والمدنية لدعم تنفيذ اتفاق سلام شامل
التحديات التي تواجهها بعثات حفظ السلام الدولية
التحدي الأول: الإلتزام بالمهام المحددة للبعثة وتجنب التحول الى طرف في الصراع
كانت بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة تعتمد أساسًا على عدم استخدام القوة ورمزية الحضور السياسي، وكان هدفها الرئيسي هو المراقبة والتقليل من التصعيد دون الانخراط المباشر في النزاع. ومع ذلك، عندما تبدأ قوات حفظ السلام في استخدام القوة بشكل مباشر ضد الأفراد، فإنها تدخل بشكل لا مفر منه في صلب الصراع وتصبح جزءًا من هيكل النزاع. وعلى عكس القوات العسكرية والجنود العاديين، تتمتع قوات حفظ السلام عادةً بصفة محايدة، ولها تفويضات محدودة، ولا تسعى بشكل شائع للانخراط في القتال. ومع ذلك، نظرًا لأن قوات حفظ السلام قد تستخدم القوة، بما في ذلك القوة القاتلة إذا لزم الأمر لحماية المدنيين أو منع توسيع النزاع، فإن مفهوم نظرية الحرب العادلة يصبح أساسياً لفهم أخلاقيات استخدام القوة. لذا، من الضروري توضيح كيف ودرجة تطبيق نظرية الحرب العادلة على مسألة انسحاب قوات حفظ السلام، لتحديد مدى التزامها بالأخلاقيات خلال مختلف مراحل العملية.
من هذا المنطلق، تتطلب مهمة حفظ السلام التمسك بقيم معينة تتعلق بحقوق الإنسان، وليس التعامل معها كقوانين مجردة، بل كحقوق أساسية. يستوجب هذا الأمر تطبيق الأخلاقيات والسلوك الأخلاقي بطريقة تتجاوز تنفيذ الأوامر فقط، حيث أنّه من الضروري أن يمتلك الأفراد ليس فقط معرفة حقوق الإنسان وفهمها، بل أيضاً التعاطف مع قيمتها الإنسانية، كما يجب أن يتوازن هذا النهج العاطفي بين الضرورات العسكرية والأخلاقية. على سبيل المثال، يتحمل الجنود مسؤوليات أخلاقية واجتماعية بصفتهم محترفين، بما يعني أن مسؤولياتهم تجاه المجتمع تتجاوز مجرد تنفيذ الأوامر. يسري هذا الحديث على بعثات حفظ السلام التي تتضمن أهدافًا عسكرية، حيث يجب تقديم توجيه أخلاقي واضح لأعضاء هذه البعثات لمساعدتهم على الوفاء بمسؤولياتهم بشكل شامل.
التحدي الثاني: “معضلة المدة”
أحد التحديات الأخلاقية لبعثات حفظ السلام والتي حددها ديفيد إيدلشتاين هي معضلة المدة، والمقصود بها تحديد الوقت المناسب للانسحاب، حيث يكون التوازن بين الانسحاب المبكر الذي قد يسبب عدم استقرار، والإبقاء لفترة أطول رغم الاستياء الشعبي، أمرًا معقدًا. هذا النوع من التحدي يعكس الصراع بين الأهداف الأخلاقية والعملية، ويؤثر على كيفية تنفيذ المهمات والقرارات المتعلقة بالانسحاب. فتحديد الوقت المناسب للإنسحاب يعتبر من التحديات الأخلاقية، من الصعب تحديد متى يجب أن تنسحب قوات حفظ السلام دون أن تؤدي إلى نتائج سلبية كبيرة. من الأمثلة على ذلك الانسحاب المبكر لقوات السلام من رواندا عام 1994، والذي كانت له عواقب كارثية.
التحدي الثالث: فجوة الموارد
تتمتع قوات حفظ السلام بسلطة كبيرة بسبب امتلاكها للموارد بجوار المجتمعات المتأثرة بالأزمات الغذائية. فإنّ الوصول إلى الغذاء والماء وغيرها من السلع، وتوفر الطعام والشراب في معسكرات الأمم المتحدة، إلى جانب امتلاك سلطة المال؛ والتنقل؛ والقوة العسكرية؛ يخلق عدم توازن في القوة بين قوات حفظ السلام والسكان المحليين، وهذا يؤدي الى تعزيز فكرة الفرد المتضرر من النزاع كمهمش مقابل الاخر الغربي المهيمن. أدت بعض الشكاوى والادعاءات المتعلقة بسوء سلوك بعض أفراد قوات حفظ السلام إلى تدهور سمعة الأمم المتحدة، إذ يشكو بعض السكان في المناطق التي تعمل بها قوات حفظ السلام من غطرسة القوات وقلة فعاليتها، وينتقدون وجودها في بلادهم باعتبارها شكلًا جديدًا من أشكال الاستعمار، بالإضافة إلى انتشار بعض الإدعاءات بشأن مشاركة بعض جنودها في أعمال تعذيب واعتداءات جنسية واستغلال، وهو ما جعل من الصعب على بعض السكان المحليين التعاون مع هذه القوات، والمبادرات الأممية
التحدي الرابع: عدم وجود إدراك كافي حول رؤية السكان المحليين لأولوياتهم وتصورهم للصراع
غالبًا ما تفضل الأمم المتحدة التعامل مع النخب على حساب التعامل مع المواطنين العاديين، حيث يتم الاعتماد على سياسات قائمة على تنظيم مؤتمرات ضخمة ومكلفة لاستضافة وإبرام الاتفاقات بين الحكومات والقادة المتمردين. يؤدي هذا إلى تجاهل الاحتياجات والتصورات الحقيقية للسكان المحليين حول النزاع، بحيث تغفل المنظمة الأممية عن العمل بموجب استراتيجيات تركز على نهج “من أسفل لأعلى”، والذي يقوم على المعرفة الجيدة بمجتمعات مناطق الانتشار، والسماح بمشاركة الشعوب في صناعة القرار للوصول إلى أفضل السبل لتعزيز السلام.
التحدي الخامس: التجاوزات الأخلاقية والعنف الممارس من قبل قوات حفظ السلام في البلد المضيف
أشارت بعض المصادر مواجهة صعوبات في ضبط سلوك الأفراد المشاركين في قوات الأمم المتحدة في بعض الحالات، بحيث وجهت لبعض بعثات الأمم المتحدة اتهامات بالاستغلال الجنسي وسوء معاملة المدنيين. من ذلك التقارير الصادرة حول بعثات الأمم المتحدة إلى كل من البوسنة والهرسك، تيمور الشرقية وليبريا والسودان، وهو ما أدى إلى دعوات للاستعانة بمزيد من النساء في بعثات حفظ السلام لضمان سلوك أكثر أخلاقية وانضباطًا.
التحدي السادس: تحول تعريفات “الصواب” و”الخطأ” أثناء فترة مهمات بعثات السلام
تتغير تعريفات “الصواب” و”الخطأ” بشكل غير متوقع بسبب التغيرات في التسويات والإمكانيات المتاحة، مما يستدعي تعديل قواعد الاشتباك والمعايير الأخلاقية لتتناسب مع الوضع الجديد. فالتسويات في النزاعات غالبًا ما تكون بين الأطراف المختلفة، وهذه التسويات تتغير مع مرور الوقت، مما قد يؤدي إلى تغير في الأهداف والمعايير التي يُفترض أن تُتبع. هذا يعني أن ما كان يُعتبر “صحيحًا” في وقت معين قد يصبح “خاطئًا” في وقت لاحق. وبالمثل، مع تغير الإمكانيات المتاحة، سواء بزيادة أو نقصان الموارد، يمكن أن تتغير أهداف المهمة والمعايير الأخلاقية، مما قد يتطلب تعديل قواعد الاشتباك بما يتناسب مع التغيرات في القدرة على تنفيذ الأوامر.
الخاتمة
تظهر الأخلاقيات في الواجبات والأعباء الأخلاقية التي تشمل المبادئ التي تحكم سلوك الفرد أو المهنة في الممارسة العملية. وعلى الرغم من وجود العديد من المبادئ والقوانين الدولية التي تحدد واجبات البعثات الدولية للسلام، إلا أنها تفتقر إلى الإلزامية. يمكن القول إن الأزمة تبدأ من تحول طبيعة النزاعات لتصبح أكثر تعقيدًا وتشابكًا، مما زاد من تعقيد مهام البعثات الدولية للسلام. كما أن الفواعل الدولية الرسمية وغير الرسمية أصبحت تنشط بشكل مكثف في مناطق النزاعات.
رغم النجاحات العديدة لعمليات حفظ السلام، فإنها تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالالتزام بالقوانين والمبادئ المعمول بها. بينما تُبنى هذه العمليات على مبادئ أساسية مثل حياد العمليات وحماية حقوق الإنسان، يواجه الالتزام بهذه المبادئ صعوبات عملية. تُعَدُّ صعوبة توثيق التحديات الأخلاقية من أبرز القضايا، حيث إن النزاعات المسلحة غالبًا ما تعوق جمع المعلومات الموثوقة وتقديم شكاوى من المتضررين، مما يجعل من الصعب تقييم مدى الالتزام بالقوانين.
بالإضافة إلى ذلك، يتغير الوضع السياسي والأمني بسرعة، مما يؤثر على فعالية البعثات ويخلق تضاربًا بين الأهداف المعلنة والسياسات الفعلية. كما أن اختلاف الأهداف والمصالح بين الأطراف المعنية يمكن أن يؤدي إلى تباين في تفسير وتطبيق القوانين، مما يعقد تنفيذ المعايير الأخلاقية. لمواجهة هذه التحديات، من الضروري إجراء تحليل وبحث معمق من داخل مناطق النزاعات، مع التركيز على تقييم فعالية البعثات وفهم التحديات الأخلاقية التي تواجهها، وإنشاء قنوات فعالة لجمع شكاوى المتضررين لضمان تحسين أداء عمليات حفظ السلام وتعزيز شفافية وفعالية هذه الجهود.
المراجع
سيفيرين أوتيسير، ” استراتيجيات خاطئة: عوامل فشل قوات حفظ السلام الأممية في إنهاء الصراعات”، نشرفيالمستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 13 مارس، 2019، https://shorturl.at/0ZWbo
“ما هو حفظ السلام؟”، نشر في موقع الأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام، https://peacekeeping.un.org/ar/what-is-peacekeeping
مروة نظير، بيئات أكثر عنفًا… ستة تحديات أمام عمليات حفظ السلام في العالم، موقع مجلة الإنساني الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 6 مارس 2019، https://shorturl.at/JJPT2
Last, D. M. “Reflections from the Field: Ethical Challenges in Peacekeeping and Humanitarian Interventions.” The Fletcher Forum of World Affairs 24, no. 1 (2000), p 74.
Roberts, Adam. 1994. “The Crisis in UN Peacekeeping.” Survival 36 (3), p 134
Aloyo, Eamon, and Geoffrey Swenson. “Ethical Exit: When Should Peacekeepers Depart?” European Journal of International Security 8, no. 3 (2023)
Harvey J. Langholtz, Ethics in Peace Operations, Course in The Centre for Military Ethics, Peace Operations Training Institute, Second edition, London, 2019, p 11
United Nations
« Peacekeeping Operations », United Nations Department of Peacekeeping Operations, New York, January 2010, P 22
شروق مستور
باحثة مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية
حائزة على ماجستير في العلوم الأمنية والاستراتيجية
لها عدة مقالات ودراسات منشورة في مجالات الأمن والسياسات الدولية
One response to “التحديات الأخلاقية في بعثات حفظ السلام الدولية”
مقال رائع.
بالتوفيق والنجاح الدائم