مقال | أحمد يمّين
يتجرَّع الإنسان مبادئ محيطه ومجتمعه حتّى تترسَّخ قيمهما وثقافتهما ترسُّخ الهويَّة في اللّاوعي. فالإنسان باكتسابه المعارف الأولى يكتسب الثَّقافة والفكر والهويَّة واللُّغة والأيديولوجيَّة بل وأنماط السُّلوك القائمة على الفعل وردَّة الفعل في أكثر الأحيان. وهو اكتسابٌ لا إراديٌّ توجِّهه وسائط التَّنشئة المباشرة وغير المباشرة.
المدرسة، بيتنا الثّاني
ولو أردنا أن نتمثَّل بعض أشكال هذه الوسائط، لوجدنا أنَّ العائلة أوَّلها كون الفرد يكتسب هويَّته ولغته الأولى فيها في سنيِّه الأولى، لتعاونها المدرسة لاحقًا في مرحلةٍ تنشئيَّةٍ ممتدَّةٍ التَّأثير، يتلقّى فيها ما يتلقّاه عبر العلوم والمعارف والمعلِّمين والأصحاب والطّابع المؤسَّساتيِّ والنِّظام الإداريِّ الَّذي تنطبع عليه المدرسة. وهذه المرحلة تعدُّ المرحلة الأدقَّ، لأنَّها أشبه بالشَّجرة في طور نموِّها: إذا أحسنّا تقويم اعوجاجها، سلمت. وإذا أسأنا، نشأت عليلة كليلةً لا سلطان لها على ذاتها ولا للتَّقويم السَّليم المتأخِّر، كعلاج المرض بعد الموت.
هي وسيط التَّنشئة الاجتماعيُّ الأطول احتضانًا للفرد والأعمق تأثيرًا فيه. تستمرُّ عمليَّة التَّنشئة في المدرسة بالتَّوازي مع النُّموِّ الذِّهنيِّ للطِّفل، حيث يختبر أنواعًا كثيرةً من العلاقات من خلال التَّماثل مع أقرانه وتماثل حاجاته ورغباته معهم من جهةٍ، وعلاقاته مع الرّاشدين من جهةٍ أخرى: وأعني بذلك علاقة التّابع بالمتبوع، علاقة الحاكم بالمحكوم أي “السُّلطة”. وهنا لا بدَّ من التَّطرُّق إلى هذين الفرعين بشيءٍ من التَّفصيل سعيًا لفهم المراد بالمُقال وحمل المَقيل على المَقال خلقًا لكلِّ احتمالٍ.
في سبيل تنشئةٍ جسديَّةٍ وعاطفيَّةٍ مستقرَّةٍ
بالحديث عن التَّماثل مع الأقران نعني الحاجات الأولى للطِّفل من حاجاتٍ جسديَّةٍ ونفسيَّةٍ وعاطفيَّة ورغباتٍ آنيَّةٍ طارئةٍ ومتجدِّدةٍ دائمةٍ. ولفهم قضيَّة الحاجات والرَّغبات يمكننا القول بأنَّ الحاجة تقوم على متطلِّباتٍ أساسيَّةٍ لضمان استقرار الحياة كالأكل والشُّرب والنَّوم والحبِّ والاهتمام: هي جزءٌ أساسيٌّ من الحياة لا يمكن الاستغناء عنه. أمّا الرَّغبة فقوامها الرَّفاهيَّة في العيش ورغده: تعزِّز جودة الحياة، ولكن يمكن الاستغناء عنها. بهذه المقارنة يمكننا التَّمييز بين الحاجة والرَّغبة، فالأولى متجدِّدةٌ دائمةٌ والثّانية آنيَّةٌ طارئةٌ. والأولى هي الأَوْلى لأنَّها غير قابلةٍ للتَّعويض والاستبدال، بينما يمكن استبدال الثّانية وتعويضها: بمعنى أنَّ جسد الإنسان بحاجةٍ للأكل والشُّرب حفاظًا على طاقته وليس ذلك مقتصرًا على طبقٍ أجنبيٍّ أو وجبةٍ سريعة إنَّما “ما يقوت الجسم، ويزوِّده بالطّاقة”. والحبُّ والاهتمام ضروريّان لإشباع عاطفة الطِّفل وتلوين مجاله النَّفسيِّ سواءً أتمثَّل الحبُّ بالكلمة والفعل أو بالمقتنيات. فالطِّفل في مدرسته سيشعر بالنَّقص إذا لم يُعط مجالًا لتغذية جسده وسيضعف إنتاجه لأنَّ الحاجة الأولى مفتقَرَةٌ لديه، ولكنَّه لن يشعر بالنَّقص إذا غابت الحلوى والسَّكاكر. كذلك، فهو لن يشعر بالنَّقص إذا لم يعطه زميله قلمًا أو ممحاةً إنَّما إذا رفضه واحتقره ونبذه. وهنا نلاحظ الأولويّات الَّتي لا بدَّ من الاعتناء بها في سبيل تنشئةٍ جسديَّةٍ وعاطفيَّةٍ مستقرَّةٍ.
أمّا بالحديث عن العلاقة مع الرّاشدين، فهي الَّتي تتمثَّل بالعلاقة المشوبة بالفجوة العمريَّة في كثيرٍ من الأحيان من جهةٍ، والرَّغبة بالحكم دون حكمةٍ من جهةٍ أخرى. والقليل من يدرك ذلك، فيحاول تقليص الهوَّة بينهما. وهي بدورها تتجلّى في نظرة الكبير إلى حاجات الصَّغير من منظوره العمريِّ، أو حتّى عدم نظره إليها نظرًا لمروره بتجربةٍ مماثلةٍ: فالإنسان غالبًا ما يحاول إسقاط تجربته على الموجودات بلا وعيٍ. إذًا، يمكننا القول بأنَّ التَّكليف دون التَّشريف إحباطٌ يحدُّ من تقدير الطِّفل ذاته للاستمرار في الإنتاج والانتقال إلى الإبداع. كما أنَّ غياب التَّشجيع غيابٌ للاهتمام، فالإنسان بطبعه كائنٌ يحتاج التَّحفيز ليفعل سواءً بمحفِّزٍ ذاتيٍّ – لا يستطيع الطِّفل تفعيله – أم بمحفِّزٍ خارجيٍّ – هو أكثر ما يحتاجه الطِّفل – من مكلِّفه. لذلك، لا يجوز لنا أن نقلِّل من شأن الكلمة في ذات المتلقّي وما تحدثه من أثرٍ. فليس بالضَّرورة أن يكون الدّافع مادِّيًّا قدر ما يكون معنويًّا، فكم من طفلٍ يقول فعلت كذا وكذا لأنَّ والديَّ أحبّا وسأنجح لأجلهما! وكم من بالغٍ راشدٍ يصارع معاناته في بيئة عمله طمعًا بضحكة أو سعادة وتقدير من يحبُّ بلا وعيٍ! ومفاد ذلك أنَّ الإنسان كائنٌ مندفعٌ بمحفِّزٍ أمادِّيًّا كان أم معنويًّا. ولولا هذا المحفِّز، لانعدم الإبداع ولتساوى النَّجاح والفشل والتَّقدُّم والتَّأخُّر وباتت البشريَّة في ركودٍ عقيمٍ.
معًا نحو تنشئةٍ سليمةٍ
بالنَّظر إلى هذه العلاقات أو تلك، يمكننا الجزم بأن الإنسان الكائن الاجتماعيَّ المحاط بقوى استقطابٍ أو تنافرٍ – إذا صحَّت التَّسمية – لن يصل إلى الهدفٍ الأسمى ما لم تتوافر عوامل الاستقطاب من حوله. وعليه، يبقى فردًا منبوذًا يحارب ذاته لافتقاره لكثيرٍ من الحاجات الأوَّليَّة غير المشبعة من جهةٍ، ويحارب الآخرين لانعدام تقديره وتقهقر رغبته في مشاركة الكلِّ. وبغياب الوعي الكافي نخلق بيئةً متنافرةً متناحرةً خصبةً للتَّخلُّف بمظاهره وانعكاساته، يتوالد فيها أفرادٌ يتوارثون التَّنافر عقب التَّنافر على مبدأ: “فاقد الشَّيء لا يعطيه.” وبالحديث عن المدرسة كوسيط التَّنشئة الأعمق تأثيرًا، فهي البيئة الحاضنة لكلِّ ما سبق والمؤثِّرة في كلِّ ما سبق.
إذًا، لا بدَّ من الإشارة إلى أهمِّيَّة تطوير بيئةٍ تربويَّةٍ تعليميَّةٍ حاضنةٍ لا مجرَّد بيئةٍ تدريسيَّة، فالهدف الأوَّل والأخير للتَّنشئة هو تحقيق التَّكيُّف والتَّأقلم، هو صهر الفرد مع الكلِّ لتحقيق الكلِّ وتحقيق الفرد. ولتتحقَّق هذه الغاية لا بدَّ من إدراك حقيقة الكائن البشريِّ المؤلَّف من عنصري النَّفس والجسد، اللَّذين لا بدَّ من تنظيم عمليَّة إشباعهما وتحفيزهما تنظيمًا علميًّا عمليًّا بعيدًا من العشوائيَّة والذّاتيَّة. ولا بدَّ لنا من رصد خطايا السَّلف فينا لبتر أذرعها من أن تمتدَّ إلى خلفنا فيموت المجتمع لا بموت أفراده بل بحياتهم، ويكونون عالةً على تقدُّمه.
أحمد يمّين
مدرّس ومدرب
متخصص في استراتيجيات التعليم عن بُعد
حاصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها