مقال | أحمد يمّين
الثَّقافة الصِّحِّيَّة لبيئةٍ تربويَّةٍ ممكِّنةٍ
نريد القصد دون القصد وننظر إلى النَّتيجة دون الحدث، وكأنَّنا في سياسةٍ جمعيَّةٍ قائمةٍ على عزل السَّبب عن النَّتيجة وتغييب العلَّة عن الأثر. نريد أن نبني جيلًا صالحًا دون تهيئة الأسباب الكافية لتحقيق هذا الصَّلاح. نريد أن نحقِّق النَّجاح دون تحقيق قيمةٍ للنَّجاح. نريد الفوز دون السَّعي والوصول دون الهداية. فما السَّبيل؟ وإلى أيِّ مدًى يمكن الاستثمار للتَّمكين؟ وهل يكفي المنهج لتحقيق النَّهج السَّليم؟
تُعتبر المدارس بيئة حيويَّةً لتطوير مهارات الطُّلّاب الأكاديميَّة والاجتماعيَّة. ومن هنا تبرز أهميَّة تحقيق السلامة الجسديَّة والعاطفيَّة على حدٍّ سواء في هذه البيئة. فالسَّلامة لا تقتصر فقط على الحماية من المخاطر الجسديَّة، بل تشمل أيضًا توفير بيئةٍ داعمةٍ عاطفيًّا تُشعر الطّالب بالانتماء، فتحفِّزه للمضيِّ قدمًا في طريق الإنتاج والإبداع. وهذا بدوره كفيلٌ بخلق محفِّزٍ أو ردَّة فعلٍ إيجابيَّةٍ تجاه هذه البيئة كامتنانٍ يأخذ ليعطي.
السّلامة أوّلًا
انطلاقًا ممّا سبق، يجدر بالمدارس والمؤسَّسات التَّعليميَّة والسُّلطات المختصَّة تعزيز مفهوم الثَّقافة الصِّحِّيَّة لا بمعناها التَّقليديِّ بل بمفهومها الواسع الشّامل للصِّحَّة الجسديَّة والنَّفسيَّة معًا. وهنا سنتحدَّث عن بعض آليّات تعزيز السَّلامة الجسديَّة من جهةٍ والسَّلامة النَّفسيَّة العاطفيَّة من جهةٍ أخرى، إذ لا يجوز الاهتمام بالجسد وحاجاته المادِّية الفيزيولوجيَّة (الرِّعاية) وإهمال الحاجات الفكريَّة والعاطفيَّة والنَّفسيَّة والرّوحيَّة للطّالب (التَّربية). وبتعبيرٍ بسيطٍ، فإنَّ الاهتمام بالمجال الرِّعائيِّ بمعزلٍ عن المجال التَّربويِّ يخلق كائناتٍ مادِّيَّةٍ تفتقر إلى المنطقيَّة والثَّقافة الرّوحيَّة الدّاعمة للأمن والسَّلام الاجتماعيَّين في فترةٍ لاحقةٍ.
إنَّ تحقيق السَّلامة الجسديَّة يتطلَّب إجراءاتٍ متعدِّدةٍ لضمان حماية الطُّلّاب من الحوادث والإصابات، وهنا نقصد المجال اللّوجيستيَّ الَّذي لا بدَّ من حسن تهيئته ليتلاءم مع الظُّروف المستجدَّة. أوَّلًا، يجب تجهيز المدارس بشكلٍ مناسبٍ بوسائل السَّلامة الأساسيَّة مثل أسطح اللَّعب الآمنة، وأنظمة الإنذار من الحرائق، ومعدّات السَّلامة الطّارئة، واتِّباع الإجراءات الأمنيَّة الَّتي تمنع أيَّ فعلٍ مخالفٍ للقانون ومهدِّدٍ للسَّلامة العامَّة، وتحدُّ من دخول الغرباء إلى البيئة التَّعليميَّة وتدخُّلهم فيها. يشمل ذلك التَّأكُّد من أنَّ جميع المرافق آمنةٌ، وأنَّ هناك إشرافًا كافيًا أثناء الأنشطة الرِّياضيَّة والتَّرفيهيَّة أو حتّى الأنشطة التَّعليميَّة الصَّفِّيَّة واللّاصفِّيَّة. وبهذا الميدان، تتفرَّع المسؤوليَّة إلى مسؤوليَّةٍ لوجيستيَّةٍ، تتمثَّل بالمتابعة الإداريَّة لحسن تأهيل المرافق وترميمها بصورةٍ دوريَّةٍ من جهةٍ، وإنشاء لجنةٍ مختصَّةٍ بالتَّخطيط وإدارة المشاريع للنَّظر في كلِّ الإمكانات والاحتمالات الممكِّنة لتفعيل أيِّ نشاطٍ وضمان حسن سيره ضمن البيئة التَّعليميَّة أو خارجها. ثانيًا، من الضَّروريِّ إجراء تدريباتٍ دوريَّةٍ للمعلِّمين والموظَّفين حول كيفيَّة التَّعامل مع حالات الطَّوارئ والإصابات. يساهم ذلك في ضمان استجابةٍ سريعةٍ وفعّالةٍ لأيِّ حالةٍ طارئةٍ قد تحدث.
أمّا السَّلامة العاطفيَّة أو النَّفسيَّة، فتعني خلق بيئةٍ تعليميَّةٍ يشعر فيها الطُّلّاب بالأمان والقبول والانتماء. يبدأ ذلك من خلال تعزيز ثقافة الاحترام والتَّقدير داخل المدرسة من خلال برامج توعويَّةٍ وتعليميَّةٍ يمكن اعتمادها وتطويرها لتعزيز المهارات الاجتماعيَّة والعاطفيَّة لدى الطُّلّاب، ممّا يساعدهم في التَّعامل مع الضُّغوطات وحلِّ النِّزاعات بطرقٍ إيجابيَّةٍ. هذا بالإضافة إلى دعم الصِّحَّة النَّفسيَّة من خلال تقديم خدماتٍ استشاريَّةٍ وموارد تعليميَّةٍ حول الرَّفاهيَّة النَّفسيَّة دعمًا يعزِّز قدرة الطُّلّاب على التَّعامل مع التَّحدِّيات اليوميَّة. وفي هذا الإطار، لا بدَّ من الإشارة إلى ضرورة وجود عاملٍ اجتماعيٍّ أو مستشارٍ في مجال الصِّحَّة النَّفسيَّة أو مرشدٍ اجتماعيٍّ تنصبُّ مهمَّته في متابعة أنماط السُّلوك لدى الطُّلاب وعلاقاتهم بأنفسهم وزملائهم وتوعيتهم وإرشادهم ومتابعتهم بشكلٍ دائمٍ. وهذا بدوره يخلق للطّالب جوًّا من الانتماء يعزِّز شعوره بأهمِّيَّته ويحسِّن من نظرته إلى نفسه في طريق الإبداع.
ومن الجدير بالذِّكر أنَّ تحقيق البيئة السَّليمة يحتاج إلى إجراءاتٍ استراتيجيَّةٍ وسياساتٍ متجدِّدةٍ تتعامل مع مستجدّات الواقع، وتلبّي احتياجات الأفراد والجماعات المتغيِّرة والدّائمة. سياساتٌ يكون منشؤها الخلق الجمعيُّ والإدراك العلميُّ الواعي لأهمِّيَّة تطوير البيئة التَّعليميَّة التَّربويَّة بما يرعى عمليّات التَّكيُّف والتَّأقلم لصالح الفرد والجماعة. إلى جانب تأهيل المرافق والأفراد والموظَّفين، لا بدَّ من تطوير منهجٍ تربويٍّ تعليميٍّ يرسِّخ الثَّقافة الصِّحِّيَّة في عقول الطُّلّاب كونهم حجر الأساس لتكوين مجتمعاتٍ جديدةٍ، فبهم الاستثمار السَّليم يكون. وبهذه المناهج يكون تطوير الموادِّ التَّعليميَّة بما يتناسب مع التَّطور الحياتيِّ المستمرِّ، أي خلق موادّ أو تنظيم حصصٍ تعليميَّةٍ يديرها اختصاصيّون يتناولون قضايا صحِّيَّةٍ وبيئيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، يسلِّطون الضَّوء على أبرز القضايا المُعاشة والمشاكل المتفاقمة ويضعون الحلول المناسبة لها بما يتناسب مع وعي كلِّ مرحلةٍ وإدراكها. وبذلك، يتمُّ تمهيد الطَّريق لسياسةٍ وقائيَّةٍ داعمةٍ للسَّلامة الاجتماعيَّة والصِّحِّيَّة والجسديَّة والنَّفسيَّة. وهذه السِّياسة تتطلَّب المتابعة والإشراف والتَّنسيق الدّائم لضمان حسن تطبيقها وتنظيمها سواءً على صعيد المدرسة من جهةٍ أو النِّظام التَّربويِّ العامِّ من جهةٍ أخرى. إذًا، يجب أن تعمل المدارس على دمج الجوانب الجسديَّة والعاطفيَّة للسَّلامة من خلال استراتيجيّات شاملةٍ. برامج التَّدريب والتَّطوير المستمرِّ للموظَّفين، فضلًا عن التَّعاون مع الأسر والمجتمعات المحلِّيَّة، كلُّ ذلك يعزِّز بيئةً مدرسيَّةً آمنةً ومشجِّعةً، تدعم نموَّ الطُّلّاب وتؤمِّن لهم تجربةً تعليميَّةً إيجابيَّةً ومثمرةً.
ختامًا، إنَّ تحقيق السَّلامة الجسديَّة والعاطفيَّة في المدارس ليس مهمَّةً بسيطةً، ولكنَّه ضروريٌّ لضمان سلامة الطُّلّاب وتفوُّقهم الأكاديميِّ. وذلك لا يكون إلّا من خلال الالتزام المستمرِّ والمتواصل بتطوير استراتيجيّاتٍ تمكِّن المدارس من توفير بيئةٍ آمنةٍ ومشجِّعةٍ للطُّلاب لتحقيق إمكاناتهم الكاملة، كما تمهِّد لخلق مفهوم المدرسة الحديثة.
أحمد يمّين
مدرّس ومدرب
متخصص في استراتيجيات التعليم عن بُعد
حاصل على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها