مقدمة مجلة الأخلاقيات الاستراتيجية
بقلم فادي غسان شهيب
لطالما كانَ الهَدفُ مِنَ الوُجودِ، المَعرِفة! ولطالما كانَت المعرِفةُ سَببًا لارتِقاءِ النّفسِ إلى عالمِ الأنسَنة، بَعدَ الغَرقِ في حَضيضِ البَشريَّةِ المُظلم. وهذهِ المعرفةُ تحتاجُ لعمليّةِ تفعيلٍ دقيقةٍ، ضمنَ شُروطٍ معينةٍ، لتُصبحَ وسيلةَ عبورٍ إلى هذا العالمِ المقدَّس، عالمِ الأنسنةِ أو الإنسان.
في البدايةِ، لا بُدَّ من توضيحِ الفارقِ الكبيرِ بينَ مفهومي “البشري” و”الإنسان”، لِيُصبحَ مفهومُ الأنسنةُ واضحًا أمامَ العيونِ المنتظرةِ لحظةَ بدءِ الرّحلةِ، رحلة النُّمو الرّوحي والتَّطور الحقيقي للبَشَريّة، التي لطالما تمَّ قياسَ تطوُّرها بالبعدِ المادّي والتّكنولوجي، لِيَبقى البُعد الرّوحي للوعي خلفَ السِّتار – عن قصدٍ أو عن غيرِ قصد، لا نَعلَم. فالبَشريُّ يهتمُّ بقانونِ البقاءِ للأقوى، ليضمنَ وجودَهُ وبقاؤهُ في خِضَمِّ الصِّراعاتِ والحُروبِ المختلفةِ؛ بَينَما الإنسانُ يهتمُّ بقانونِ البقاءِ للأَوعى، لِيضمَنَ بقاءَ الأثر الرّوحي للأجيالِ الصّاعدةِ، ويضمنَ تطوُّر البَشريَّة من حالٍ إلى حالٍ أرقى على سُلَّمِ السُّمو الإنساني.
لذلكَ، جاءَ تفعيلُ المعرفة لارتقاءِ الخَلقِ على سِلسلةِ الأنسَنةِ للوجودِ، مَرْهونًا بِما يُسمّى “الأخلاقيات”. ولنخوضَ البحثَ في الأخلاقياتِ من خلالِ البُعدِ الرّوحي للأنسَنة، فَهي تَتحوّلُ لضمانِ سَيرِ القانونِ الكَونيِّ المُقدَّس الذي يضمنُ بقاءَ الوجود بأبهى حلَّةٍ، ويضمنُ بقاءَ الخَلق، كلَّ الخَلق في نظامٍ لا شَوائبَ فيهِ ولا خَلَل.
في سَبيلِ هذهِ الغايةِ، وَجَبَ على الإنسانِ التَّركيزَ على مَبدأ الحفاظِ على هذا القانون، واحتِرامَ أُصُولَه، بِغَضِّ النّظر عن نظريةِ أو قانونِ التَّمدُّد التّكنولوجي أو التَّطَوُر المُجتَمَعي، لأنَّ الدِّراسات الحَديثة أظهرَت أنّ التَّقدُّم التِّقَني والعِلْمي الذي وَصَلنا إليهِ، أَحدَثَ تَغيُّرًا أو تَهجينًا للقانونِ الطبيعي والكَونيِّ على نَحوٍ تَمَظهرَ في التَّغيُّراتِ المَناخيَّةِ والجِيُولوجيَّةِ والبيئيَّةِ والصّحيَّةِ التي يَطولُ شَرحَها في هذا السِّياق. مِن هُنا، كانتِ الحضاراتُ المُتقدِّمةُ في العُصورِ القَديمةِ -والتي لا يزال جزءًا كبيرًا من تطوُّرها غير مُفسَّر- قد نادَت بِمَبدَأ الأخلاقياتِ مِن خلالِ قوانينٍ تحافظُ على المَسارِ الطّبيعي للوُجودِ، وتجعلُ الإنسانَ مُرتبطًا بالقانونِ الكَونيّ الذي مِن خلالِهِ يتحرَّكُ كلَّ الوُجود دونَ خللٍ.
لا يوجدُ فرقٍ بينَ الأنسَنةِ والأخلاقياتِ لأنَّها نتيجةٌ وسببٌ، فلا يُمكِنُ بُلوغَ النّتيجة دونَ سَبَبها، ولا يمكنُ إلغاءَ الأسباب لأنّها أساسُ الوُجود. مِن هذا المُنطلقِ، وجَبَ على كلِّ صاحِبِ علمٍ ومَعرفةٍ، إظهارَ البُعد الإنساني مِن عُلومِهِ ومَعرفتِهِ، ليَجعلَ هذا المُحتَوى متوافقًا ومُنسابًا مع المحيطِ الوُجوديّ الذي مِن خلالِهِ تَحْيا كُلَّ المَوجودات. ولأنَّ العالمَ ثنائيٌّ، وكانَ في داخلِ كُلَّ شَيءٍ خيرًا وشرًّا، أو ظُلمةً ونُورًا، كانَ مِنَ المُمكِنِ أنْ تكونَ نتائجَ الأسبابَ للخَيرِ أو للشَّرِ بحَسبِ أخلاقياتِ أصحابِ المَعرفةِ، وبحَسبِ نوايا المُكتشِفين الحَقيقيّة، ليَبقى السُّؤال الأعظَم: هل استَطاعَ العُلَماء بُلوغَ عالَمَ الأنسَنة مِن خِلالِ ما يُسَمُّونَهُ تَقدُّمًا عِلميًّا وحَضاريًّا؟ هل استطاعَتْ الحضارةُ الحَديثةُ خَلْقَ إنسانًا يَحيا في كَونيّة وجودِهِ لِيَحيا هذا التّواصُل الحَقيقيّ مَع الطّبيعةِ؟ ولَو كانَ الكلامُ صحيحًا، لما بقِيَت الصراعاتُ الإقليمِيَّة والحُروبُ الدَّوليّةِ والسِّباقُ إلى التَّسلحِ، لأنّ النَّظرةَ الوُجوديةَ للإنسانِ تَجعَلُ المَدينةَ الفاضِلةَ كَونًا صَغيرًا تَحيا فيها البَشريةُ المُتَأنسِنةُ بسَلامٍ ومَحبَّة.
ممّا تَقدَّم، كانَ التَّوجُّه لِفَتحِ بوّابةَ وَعي إنسانيّ مِن خِلال هذا المِنبَرِ، لرُبَّما تَستطيعُ شمعةٌ صغيرةٌ أن تضيءَ عتمةً كبيرةً، في حَضارَةٍ رُغمَ تَقدُّمُها الظَّاهِري بَقِيَت تَفشَلُ في بِناءِ الإنسانِ “الإنسان”، والمُجتَمَعاتِ الرَّاقيَةِ على الصَّعيدِ الرّوحيِّ العَميق
سلام ومحبة
فادي